ازدان العدد 32 لمعلمة المغرب بحوالي، 155 مادة شارك فيها 79 باحثا وباحثة.
وكما هو معهود، تثير المواد قضايا متنوعة تاريخية وجغرافية وبيئية وثقافية وتراثية.
التزامي بتقديم المواد الأثرية والتراثية حفزني للبحث عن الخيط الناظم أو الرابط الذي يلم بهذه العناصر ويجمع شتاتها من بين أعمدة العدد.
اخترت ترتيب المواد على النحو التالي :
1 ـ مادتان ليس إلا حول موقعين أثريين مغمورين،
2 ـ ثلاثة مواد أدرجتها تحت مسمى اثـنو- اركيولوجيا،
3 ـ خمسة عشرة مادة حول التراث، وهو الحاضر بقوة ضمن هذا العدد. ومن البديهي أن أعمد لتقسيمه إلى عدة مباحث لتسهيل الإحاطة به.
1 ـ الموقعان الأثريان هما :
* ترحالت أو أنماي : يقع الموقع بدير الأطلس الكبير، بقبيلة زمران، ويعرف بين الساكنة بالمدينة أو المدينة البرتغالية، يؤرخ بالقرن 16م. يحتاج الموقع لمعول الأثري لضبط أصوله وتحديد امتداده الزمني والمكاني.
* قصبة الفرايطة بسوق أحد الفرايطة بقبيلة السراغنة. لا زال الموقع يحتفظ ببنايات شامخة ؛ هو بالنسبة للباحث "مدينة حقيقية". يتوفر الموقع زيادة على عمارته السيكلوبية، على 70 مطمورة وصهاريج مبلطة.
يحتاج هذا الموقع للصيانة والترميم والتثمين
2 ـ المواد الاثنو- اركيولوجية، وهي ثلاثة مواد على النحو التالي :
* إدقى أو الفخار الواسع الانتشار بالريف الأوسط ؛ وتتميز كل قبيلة بلون وأوجه استعمال الفخار، ويتفوق دوار ثغرا بقبيلة بقيوة على باقي الدواوير.
تستحضر الباحثة مراحل الصنعة من البدء إلى التشكيل ثم التسويق. وتعتبر الفخار صنعة نسائية بامتياز.
* أسماس / القدر العظيم من النحاس. يطلق المصطلح أيضا على الوليمة التي تحضر فيه، ولا يستبعد أن تعود الاحتفالية للعصر المرابطي. وتنظم لإقامة تحالفات أو تعزيزها.
يتشكل أسماس من مدقوق الشعير والحنطة وتحضر بلحم الخروف، ويشارك فيها الجميع بنصيب.
* ألواح أﮔـادير : تمت تزكية هذه الألواح من لدن السعديين (ق 16م)، ولعلها ترتبط بالدولة المرينية (القرن 14م.). هي مجموعة قوانين تنظم الحياة القبلية، ولا يعتبر لوح أجريف أول لوح شفوي تحول إلى كتابي، بل هناك عدة مخطوطات تبرز بأن للعرف المكتوب عدة أصول.
إن الفهم الأعمق للألواح وفق الباحث، هو فهم لرصيد غني من الاقتصادي والاجتماعي للجنوب المغربي.
3 ـ التراث : هو المادة المتعددة بأنواعها وأشكالها، وهو المحور الذي يشمل عدداً أكبر من المتدخلين ؛ فرادى وجماعات : منهم باحثون متمرسون وشباب واعد.
يضم المحور التراث الشفهي وأيضا التراث بنوعيها المادي واللامادي على النحو التالي :
1 ـ التراث الشفهي يهم مادتين :
* تييورا ن يـيـﮔـنا
* سلهام بورنازيل
* تييورا ن ييـﮔـنا : هو معتقد سائد بالجنوب الشرقي المغربي، ساقها الباحث نقلا عن بعض المسنين. ينتظر الساكنة انفتاح أبواب السماء، التي لا تفتح إلا للمحظوظين الاتقياء ليلة القدر وكذلك خلال يومي الاثنين والخميس.
ب. سلهام بورنازيل الاحمر من التراث الشفهي الأسطوري بامتياز، اعتقد الناس بأنه مقاوم للرصاص أنجى صاحبه طويلا من الموت المحقق، ولما لم يلبسه لقي حتفه. اضحى السلهام من تركة مقاوم أيت عطا نايت خويا. يذكرنا السلهام ببرنوص الملك الموري بطليموس ابن يـوبا الثاني وبنهايته المفجعة.
2 ـ عناصر تراثية ثلاثية :
· تنوضفي / المطفية : هي تقنية متميزة لتدبير ندرة المياه، وذلك بتجميع المياه السطحية خلال فترات تهاطل الأمطار. تنتشر بالأطلسين الكبير والصغير وبسوس لا زال بعضها مقاوما لعوادي الزمن. تستعمل مياه المطفية لأغراض مختلفة، وإن كانت موجهة أساسا لتأمين مياه الشرب للمقيمين والوافدين.
· إﮔـرنان / القبور الجماعية : هي ثلاثة مقابر جماعية تحتوي على رفاة شباب وشيوخ وأطفال بقمم جبال صاغرو وجنوب شرق المغرب وعبر الأودية ؛ ومن ذلك واد بوﮔـافر. تدل على بشاعة جرائم فرنسا، إذ تمثل القتل الذي يعادل جرائم الإبادة خلال حروب فبراير ومارس من سنة 1933. هي حروب غير متكافئة بين المستعمر والساكنة. تكلف بعض الشباب بتجميع الجماجم المتناثرة. ولا زالت لا تعرف هوية معظم الشهداء. فالباحثون مطالبون بتكثيف الأبحاث حول معارك التحرير، ومنها حرب بوﮔـافر.
· إيـﮔـودار / المخازن الجماعية : هي تراث خاص بأرياف الجنوب المغربي. تضبط آليات تدبيرها بقوانين عرفية يمكن اعتبارها أمرا فريدا خاصا بالثقافة المغربية.
· تتجاوز مهمة تخزين الحبوب، بحيث تشكل مؤسسة ذات وظائف متعددة دفاعية واقتصادية واجتماعية. تتضمن عدة مرافق، ومنها الورشات الحرفية.
· لا زالت تعرف دينامية سياحية ببعض مناطق الجنوب المغربي بإقليم ﮔـلميم وبشتوكا أيت باها.
3 ـ التراث المادي المعماري
يشتمل هذا المبحث على معالم تراثية تنتمي لجهات بعينها، ومنها جهة الرباط - سلا - القنيطرة ؛ وأساسا معالم من العدوتين : الرباط وسلا.
فمعالم الرباط تتمثل في متحفين يجمعان بين جنباتهما صورا من الماضي البعيد والقريب. فمتحف بنك المغرب الذي أقيم بداخل الوكالة القديمة للبنك ودشن في بداية القرن (2010) يتشكل من مسار تاريخ النقود، ومن رواق للفنون. وتنظم به معارض مؤقتة وورشات ؛ وكذا أنشطة ثقافية هامة. وينتمي متحف اتصالات المغرب لشركة اتصالات المغرب، وهي مؤسسة شبه عمومية تساهم في حفظ التراث وتثمينه.فهو أول متحف مخصص لتاريخ تكنولوجيا الاتصالات بالمغرب، يتيح الاطلاع على التطور التكنولوجي والمؤسساتي للاتصالات العالمية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة. افتتح المتحف رسميا في 24 شتنبر 2001.
أما المعلمة الثالثة الرباطية الواردة في هذا المجلد الثاني والثلاثين، فهي كاتدرائية القديس بطرس بساحة الجولان التي تنتمي لفترة الحماية، والتي شهدت عدة تعديلات باستمرار. تجمع بالنسبة لطرازها المعماري الداخلي بين الأسلوبين القوطي والإسلامي..
احتفلت طيلة سبعة أشهر بذكراها المئوية (من 23 نوفمبر 2021 وإلى غاية 29 يونيو 2022).
يمكن من خلال هذه المادة المتعلقة بالكتدرائية معرفة عدة مفاهيم واستحضار الطقوس الدينية ؛ بل التعرف على أسماء الأساقـفة الذين ترأسوا مراسيمها .
الكاتدرائية هي رمز للتعايش بين الأديان والحضارات والثقافات.
أما مواد العدد 32 للمعلمة المتعلقة بمعالم سلا التراثية، فغاصت في فنادقها وملاليحها ومدرستها الحرة.
لقد لعبت الفنادق السلاوية أدوار كبيرة في النشاط التجاري منذ العصر الوسيط وإلى حدود الستينات من القرن الماضي. امتد معظمها من باب فاس إلى باب سبتة مرورا بالسوق الكبير (الرحبة)، وانتشر بعضها الآخر عبر أطراف المدينة. لقد تغيرت مسمياتها بتغير أسماء مالكيها، بل استبدلت وظيفتها الأساسية بأخرى ؛ كفندق الزيت الذي اضحى مؤسسة طبية، وهو اليوم متحف خاص بالآلات الموسيقية. أحصى الباحث زهاء 39 فندقا، ولم تتبق منها إلا 8 فنادق محافظة على وظيفتها الايوائية للمستضعفين.
بالنسبة لملاليح سلا، فهي أحواض خاصة بملح الطعام. لم ترد أدنى معلومات حولها خلال العصرين الوسيط والحديث ولكن يستفاد من الأملاك المحبسة أهميتها.
ويعد الباحث الفرنسي من زمن الحماية لوي برونو أول من قدم تفاصيل هامة حول شكلها وأسلوب العمل فيها.
توقف نشاطها بسبب زحف العمران، وانضاف افولها إلى انقراض الشابل.
أما عن أهمية المدارس الحرة بالمغرب زمن الحماية، ومنها المدرسة المحمدية، فلا يخفى على مهتم بالشأن التعليمي أسباب نشأتها وأدوارها ونظام الدراسة بها وأسماء بعض أعلامها، ومن ذلك الفقيه المريني بسلا.
خارج مدار العدوتين (الرباط وسلا) اهتمت مواد بالمعلمة بمتحف فيلا هاريس بطنجة وبالمدرستين الفنيتين بتطوان والدار البيضاء. هي فضاءات لتعلم فنون الفن وأيضا خاصة بالعرض. والمتتبع لمساراتها من خلال مواد المعلمة المذكورة يدرك مدى صعوبة دمقرطة مناهج الفنون. ويستطيع من خلال هذه المواد التعرف على أسماء رواد الفن المغربي من قبيل عبد السلام بن العربي الفاسي وفريد بلكاهية بالدار البيضاء ومحمد السرغيني بتطوان.
لم يغب التراث اللامادي من أجندة العدد 32 للمعلمة، حضر من خلال الفروسية وطقوسها بأبي الجعد، وكذلك من خلال الأمثال والتراث الشعبي الغنائي الذي يرسخ أسماء مقاومين ؛ ناهيك عن الألغاز والأحاجي. فالأمثال حسب الباحث مقاصد سوسيولوجية ونقدية عاطفية، والأحاجي هي اختبار لذكاء الإنسان وفطنته.
ما أحوجنا لتجميع شتات التراث اللامادي الغني بدلالاته وإيحاءاته من أجل أجيال المستقبل.
اختم بالحديث عن التراث الزراعي الذي قلما أدركنا أهميته. فإذا كان الجدل لا زال قائما بين أصل الزراعة والغراسة وعمر الأشجار المثمرة ومن ذلك الورديات، فأصنافها وتنوع مصادرها بين محلي ومستورد بالتربة المغربية تحثنا على الانتباه لديمومة الأصناف المحلية، ومن ذلك التفاح المحلي الذي أضحى مهددا بالانقراض.
عندما نذكر التفاح، نعتز بأن الأسطورة موضعة الحدائق الغناء ذات التفاح الذهبي بموقع ليكسوس الأثري والأرض المغربية.
هذه الأسطورة لوحدها تستحق أن تلهم المبدعين، وتشكل مادة ثقافية دسمة لأطفالنا، من اجل غرس روح الاعتزاز بعمق تاريخنا الزراعي.
الخاتمة : معلمة المغرب كما هو وارد في صفحتها الأولى وكما أراد لها مؤسسها العلامة محمد حجي وطاقمه منذ إيداعها قانونيا بالمكتبة الوطنية تحت رقم 0629/ 1984 "هي قاموس مرتب على حروف الهجاء، يحيط بالمعارف المتعلقة بمختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والبشرية للمملكة المغربية". صحيح أن مصطلحا أثار وتراث غير واردين بالصفحة السالفة الذكر، ولكن مصطلحا التاريخ من جهة والحضارة المغربية من جهة ثانية جعلا من هذين العلمين واقعا حتميا. لم تغب بتاتا المعالم والمواد الأثرية من أعمدة المعلمة منذ عددها الأول. فالمواقع المشهورة أو المغمورة حاضرة بقوة، وكذلك المواد الأثرية ممثلة في الفخار، والفسيفساء، والمسكوكات، ناهيك عن أعلام الأثار وهم أساسا أوربيون لأنهم شكلوا الحلقة الأولى في هذا التخصص. لقد احتفل المعهد الوطني لعلوم الأثار والتراث بعقده الرابع، ونتابع عبر وسائل التواصل الاجتماعي جديد الحفريات الأثرية أو القراءات المستنيرة حول بعض المعالم والمواقع الأثرية، وارتفع عدد خريجي المعهد، وتنوعت أبحاثهم، واكتسب بعضهم صيتا عالميا، ولكن نسبة مشاركاتهم في المعلمة سواء في الأعداد القديمة أو العدد 32 لا ترقى للمطلوب. لا زالت الجامعة المغربية تقوم بالواجب. لعل قراءتي المتواضعة لمواد الأثار والتراث ضمن العدد 32 ستستنهض الهمم وتنبري أقلام شباب شغوف بأثار بلاده وتراثها، لأنه لديهم الكثير الذي يمكنهم أن يضيفوه لمواد المعلمة التي هي منهم وإليهم.
يستوجب العرفان ذكر أسماء من أرسوا قواعد معلمة المغرب، وعلى رأسهم الفقيد المؤسس محمد حجي على روحه وأرواح من فقدناهم من الرواد السلام، والتحية والتقدير لأعضاء لجنة التحرير منذ النشاة وإلى الراهن.
أتقدم بعبارات الاجلال والاكبار للباحثين الذين ساهموا في اغناء مواد المعلمة منذ البدايات، ومنهم المساهمون في العدد 32.
لا أنسى الزميلات والزملاء الذين أنيطت بهم مهمة قراءة مضامين العدد 32، وأيضا من تحملوا مسؤولية التتبع والفهرسة والتنظيم، ومنهم العزيزان محمد بلعربي وفاطمة الزين، وأيضا الوزارات والمعاهد المدعمة، والحضور الكريم الذي تابع القراءات خلال لقاء 17 ماي 2025 بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وغني عن البيان أن أعرب عن شكري البالغ وعظيم امتناني لأستاذي الفاضل مصطفى الشابي الذي فوض لي مهمة استحضار المواد التي لها صلة بالأثار والتراث.
أرجو أن تحفز قراءتي الموجزة جمهور القراء على العودة للمواد الأثرية والتراثية، وأنصحهم بأن يسارعوا، فهناك مواد ستفيدهم، وأخرى ستسعدهم كما أسعدتني ؛ هي مواد طريفة جعلت دموع الفرح تنهمر على خدي مدرارا مدرارا.
الببليوغرافية : مواد معلمة المغرب الأثرية والتراثية، العدد 32، 2025.
* إبراهيم بديدي، التفاح فاكهة وتراث زراعي، ص. 89-93.
* محمد بلعربي، مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة، ص. 287-288.
* نفسه، المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان، ص. 288.
*عبد اللطيف البودجاي، متحف فيلا هاريس، ص. 280-282.
* بشرى حبوبة، كاتدرائية القديس بطرس، ص. 239-242.
* نعيمة الحضري، متحف اتصالات المغرب، ص. 276-278.
* نعيمة الحضري وعبد السلام لعيب، متحف بنك المغرب، ص. 278- 280.
* حسن رامو والمحفوظ اسمهري ومبارك أيت عدي، ألواح أﮔـادير، ص. 267- 269.
نفس الأسماء، إيـﮔودار (المخازن الجماعية)، ص. 44- 46.
*حسن رامو وفاطمة الزهراء شحو، تنوضفي / المطفية، ص. 93-94.
* محمد السعديين، فنادق سلا، ص. 223-225.
* نفسه، ملاليح سلا، ص. 307-309.
* الحسن شوقي، ترحالت / أنماي، ص. 88- 89،
* نفسه، قصبة الفرايطة نضيف لما سبق وتحضر الوليمة، ص. 235.
* عبد الرزاق الصافي، التراث اللامادي بأبي الجعد، ص. 81- 84.
* صباح علاش، إدقـي / الفخار، ص. 16-19.
* عبد الوهاب المريني، المحمدية، مدرسة حرة بسلا، ص. 284-286.
* مصطفى ملو، إﮔـرنان / قبور جماعية، ص. 32-33.
* نفسه، تييورا ن ييـﮔـنا (انفتاح أبواب السماء)، ص. 98.
* نفسه، سلهام بورنازيل، ص. 163.
* الوافي النوحي، أسماس أو القدر العظيم من النحاس، ص. 25- 26.
الرباط، في يوم السبت 17 مايو 2025
الأستاذة بلكامل البضاوية